حكم تمييز حجية الأحكام: حجية الحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية
محكمة التمييز القطرية – الطعن رقم 49 لسنة 2020
جلسة 21 من إبريل سنة 2020
مسئولية “المسئولية التقصيرية”. حكم “تسبيبه: عيوب التدليل: الخطأ في تطبيق القانون” “حجية الأحكام: حجية الحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية”.
الحكم بالبراءة في جريمة التبديد المبني على انتفاء الركن المعنوي. لا حجية له أمام المحكمة المدنية. علّة ذلك. كفاية الركن المادي وحده كأساس للمسئولية المدنية. قضاء الحكم المطعون فيه بانتفاء المسئولية المدنية؛ تأسيساً على قضاء جنائي بالبراءة من جريمة تبديد مؤسس على انتفاء الركن المعنوي للجريمة، رغم ثبوت الركن المادي لها. خطأ.
المحكمة
بعد الاطّلاع على الأوراق وسماع التقرير الذي تلاه السيد القاضي المقرر والمرافعة، وبعد المداولة.
حيث إن الطعن استوفى أوضاعه الشكلية.
وحيث إن الوقائع – على ما يبين من الحكم المطعون فيه وسائر الأوراق – تتحصل في أن الطاعنة أقامت على المطعون ضده الدعوى رقم …. لسنة 2015 [مدني كلي]، بطلب الحكم بأن يؤدي لها ….. مليون ريال قطري تعويضاً، على سند من أنها كانت قد وكلت المطعون ضده ليترافع عنها في دعوى الإيجار المرفوعة ضدها، وتسلم منها شيكات الأجرة لتسليمها للمؤجر واستبدالها بما لدى المؤجر من شيكات أخرى سبق له استلامها، إلا أنه لم يفعل مما ترتّب عليه فسخ عقد الإيجار وعدم انتفاعها بها، فضلاً عن تقديم المؤجر للشيكات الأخرى التي كانت بحوزته وقضي فيها بحبسها، وقد اكتشفت أنه قبل وكالة من خصمها. حكمت محكمة أول درجة برفض الدعوى. استأنفت الطاعنة هذا الحكم بالاستئناف رقم …. لسنة 2019. وبتاريخ ../../2019 قضت المحكمة بتأييد الحكم المستأنف. طعنت الطاعنة على هذا الحكم بطريق التمييز، وإذ عُرض الطعن على هذه المحكمة في غرفة المشورة؛ فحُدّدت جلسة لنظره.
وحيث إن الطعن أقيم على سببين تنعى بهما الطاعنة على الحكم المطعون فيه مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه والفساد في الاستدلال، وفي بيان ذلك تقول: إن الحكم الجنائي الصادر في الاستئناف رقم …. لسنة 2013 عن الجنحة رقم …. لسنة 2010، ولئن قضى ببراءة المطعون ضده عن واقعة تبديد الشيكات موضوع الدعوى، إلا أنه لم ينفِ واقعة تسلّمه لها، وكان التعويض المطالب به عن واقعة إخلاله بعدم تسليم الشيكات للمؤجر، وهي تختلف عن محلّ الجريمة المطروحة على المحكمة الجنائية، فلا يكون للحكم الجنائي حجية بالنسبة للدعوى المطروحة، إلا أن الحكم المطعون فيه خالف هذا النظر؛ بما يعيبه، ويستوجب تمييزه.
وحيث إن هذا النعي سديد؛ ذلك أن النصّ في المادة (319) من قانون الإجراءات الجنائية على أن: ” يكون للحكم الجنائي الباتّ الصادر في موضوع الدعوى الجنائية بالإدانة حجية تلتزم بها المحاكم المدنية في الدعاوى التي لم تكن قد فصلت فيها بحكم باتٍّ، فيما يتعلّق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها إلى فاعلها، ويكون للحكم بالبراءة هذه القوة، سواء بُني على انتفاء التهمة أو على عدم كفاية الأدلة، ولا تكون له هذه القوة إذا كان مبنياً على أن الواقعة لا يعاقب عليها القانون.”، وفي المادة (301) من قانون المرافعات على أن: ” لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجزائي إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم، وكان فصله فيها ضرورياً.”؛ يدلّ على أن الحكم الجنائي الباتّ الصادر بالإدانة تكون له حجية ملزمة في الدعوى المدنية أمام المحاكم المدنية، ما دام قد فصل فصلاً لازماً وضرورياً في وقوع الفعل المكوّن للأساس المشترك بين الدعويين الجنائية والمدنية وفي الوصف القانوني لهذا الفعل ونسبته إلى فاعله، أما ما يستطرد فيه الحكم الجنائي بأسبابه، دون أن يكون مؤدياً للنتيجة التي انتهى إليها؛ فلا تتقيّد المحكمة المدنية بهذا التزيّد. ولئن كان الأصل أن الحكم الجنائي القاضي بالبراءة له الحجية ذاتها أمام المحاكم المدنية، إلا أنه نظراً لأن الفعل الواحد – إذا ما ثبت- قد يكون محلاً للمسئولية المدنية، في حين أنه بذاته يكون بمنأى عن العقاب لافتقاده أحد أركان الجريمة في القوانين الجنائية، فإن المشرّع استثنى من اكتساب الحكم بالبراءة للحجية، تلك الأحكام المبنية على أن الفعل لا يشكّل جريمة، ومن بينها الجرائم العمدية التي تستلزم لتمامها ركناً معنوياً يتمثّل في انصراف نية الجاني على تحقيقها، فإن افتقد الفعل المكوّن للركن المادي فيها اقترانه بالركن المعنوي، فإن الفعل لا يكون معاقباً عليه جنائياً، رغم أن الفعل ذاته قد يصلح أساساً للمسئولية المدنية، دون حاجة لتوافر العمد فيه. وإذ كانت جريمة التبديد أو خيانة الأمانة هي جريمة عمدية يتمثّل ركنها المعنوي في القصد الجنائي بعنصريه العلم والإرادة، بأن يعلم الجاني بكافة عناصر الركن المعنوي بملكية غيره للمنقول محلّ التبديد، وأن حيازته له حيازة ناقصة ليست كاملة وأن تتجه إرادته إلى حرمان المالك من حقوقه على الشيء المؤتمن عليه والتصرّف فيه تصرّف المالك. في حين أن تسلّم الشيء وفقده أو عدم رده
أو تسليمه أو إيصاله للغير المتفق عليه ،ولو كان على سبيل الخطأ وبغير عمد قد يترتّب عليه مسئولية مدنية، فإنه يترتّب على ذلك أن الحكم الصادر بالبراءة في جريمة التبديد المبني على انتفاء الركن المعنوي باعتبار توافر ركنه المادي وحده لا يكفي لقيام الجريمة الجنائية، لا يكون له أي قوة أمام المحاكم المدنية، ما دامت الدعوى المدنية لا تشترط لقيام المسئولية فيها توافر العمد. لمّا كان ذلك، وكان الواقع في الدعوى أن الطاعنة قد أقامت دعواها بالتعويض على تقاعس المطعون ضده عن تسليم الشيكات الخاصة بالأجرة بعد أن تلقاها منها لاستبدالها من المؤجر بما لديه من شيكات أخرى، وهو ما تدّعي بأنه ألحق بها ضرراً تمثّل في حبسها بحكم جنائي عن الشيكات الأخرى التي كانت لدى المؤجر، فضلاً عن فسخ عقد الإيجار وفقدها للانتفاع بالعقار المؤجر، وكانت الجريمة المسندة للمطعون ضده في الدعوى الجنائية مردّها تبديده لهذه الشيكات إضراراً بالطاعنة، وإذ قضت المحكمة الجنائية في المرحلة الاستئنافية ببراءة المطعون ضده عن هذه الواقعة لتخلّف الركن المعنوي في الجريمة، رغم ثبوت الركن المادي فيها، فإن القضاء بالبراءة لا تكون له حجية في نفي واقعة التقاعس عن تسليم الشيكات للمؤجر أساس الدعوى المدنية المطروحة. وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر، واتّخذ من القضاء ببراءة المطعون ضده أساساً لنفي المسئولية المدنية عنه، واعتبر له حجية أمامه؛ فإنه يكون قد خالف القانون، وأخطأ في تطبيقه.