حكم تاريخي لمحكمة النقض: حماية الملكية الخاصة ورفض الاستيلاء الجبري
باسم الشعب، أصدر القضاء المصري حكمًا في غاية الأهمية يسلط الضوء على المبادئ القانونية التي تضمن حماية حقوق الأفراد ضد التجاوزات المحتملة من السلطات العامة. هذا الحكم، الصادر عن محكمة النقض المصرية، يعكس التزام القضاء بالحفاظ على الحق في الملكية الخاصة كحق دستوري أصيل، ويشرح تطبيقاته من خلال وقائع القضية، مبينًا كيفية تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد وسلطات الدولة.
القضية المطروحة: حماية حقوق الملاك في مواجهة الاستيلاء الجبري
في يوم 27 أبريل 2024، أصدرت دائرة السبت (أ) المدنية بمحكمة النقض حكمًا في طعن رقم 4108 لسنة 93 قضائية. تمحورت القضية حول نزاع بين رئيس الوحدة المحلية لمركز ومدينة طهطا بصفته وطرف من الورثة بشأن تعويضات مالية عن مساحة عقارية استولت عليها الدولة دون اتباع الإجراءات القانونية.
أبعاد النزاع القانوني
الوقائع: تفاصيل النزاع القانوني بلغة مبسطة
القضية بدأت عندما تقدم ورثة أحد الملاك الأصليين بدعوى قضائية ضد الجهة الإدارية، مطالبين بتعويض مالي كبير عن استيلاء الجهة الإدارية على جزء من ممتلكاتهم دون اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
مطالب الورثة:
في عام 2019، رفع ورثة المالك الأصلي دعوى أمام محكمة سوهاج الابتدائية (مأمورية طهطا الكلية)، حملت رقم 25 لسنة 2019، وطالبوا بإلزام الجهة الإدارية بما يلي:
- دفع مبلغ 582,800 جنيه كتعويض مالي عن الاستيلاء على مساحة من العقار.
- دفع مبلغ 163,912 جنيهًا كريع (عوائد) عن استغلال المساحة المستولى عليها، وذلك عن الفترة الممتدة من 1 يناير 2006 وحتى 31 أكتوبر 2020.
- الفوائد القانونية على هذه المبالغ بدءًا من تاريخ المطالبة وحتى تمام السداد.
سبب الدعوى:
الورثة استندوا في دعواهم إلى أن والدهم، المالك الأصلي، كان يمتلك العقار محل النزاع، وقد فوجئ عند استصدار ترخيص البناء الخاص به عام 1977 بإلزامه بالتراجع عن مساحة قدرها 2.2 متر بطول واجهة المنزل، وفقًا لترخيص البناء رقم 38 لسنة 1977.
- هذا القرار تسبب في حرمانه من الانتفاع بهذه المساحة دون اتخاذ أي إجراءات قانونية لنزع الملكية أو صدور قرار رسمي بهذا الشأن.
- بناءً على ذلك، أقام الورثة الدعوى للمطالبة بالتعويض.
طلب الجهة الإدارية:
بعد أن عينت المحكمة خبيرًا لدراسة القضية وقدم تقريره، قامت الجهة الإدارية، بصفتها المدعى عليها، بتقديم طلب عارض تضمن:
- إلزام الورثة بدفع مبلغ 251,000 جنيه كتعويض عن انتفاعهم بالمساحة محل النزاع منذ صدور ترخيص البناء في عام 1977 وحتى ضمها رسميًا إلى الشارع بموجب القرار الإداري رقم 97 لسنة 1987.
- إلزامهم بدفع فوائد بنسبة 4% من تاريخ الاستحقاق وحتى السداد الكامل.
الأحكام السابقة:
- المحكمة الابتدائية:
- حكمت بإلزام الجهة الإدارية بدفع مبلغ التعويض المطلوب من الورثة، إلى جانب الفوائد القانونية بواقع 4%، بدءًا من تاريخ الحكم النهائي وحتى تمام السداد.
- رفضت طلبات الجهة الإدارية العارضة بحجة سقوطها بالتقادم.
- محكمة الاستئناف:
- قضت في 11 ديسمبر 2022 بإلغاء الحكم المتعلق بالفوائد القانونية، لكنها أيدت بقية الحكم.
- الطعن بالنقض:
- لم ترضَ الجهة الإدارية بالحكم الاستئنافي، فطعنت عليه أمام محكمة النقض.
- قدمت النيابة العامة مذكرة أيدت فيها نقض الحكم، وتم عرض الطعن على المحكمة، التي رأت جدية النظر وحددت جلسة مرافعة.
القرار النهائالتزام بالإجراءات القانونية في حالات نزع الملكية.
مبادئ أساسية أكدتها المحكمة
- الحق في الملكية لا يسقط بالتقادم: المحكمة أكدت أن حق الملكية هو حق دائم لا يسقط بالتقادم. وعندما تقوم الدولة بالاستيلاء الجبري على عقار دون اتخاذ الإجراءات القانونية المنصوص عليها في قانون نزع الملكية، فإن ذلك يُعد غصبًا، ولا يُنقل ملكية العقار للدولة.
- التعويض عن الغصب واجب قانوني: استيلاء الدولة على الممتلكات الخاصة دون اتباع الإجراءات القانونية يستوجب تعويض الملاك، حيث أن الغصب لا يمنح الدولة حق الملكية، ويظل للمالك الأصلي الحق في المطالبة باسترداد ملكه أو التعويض عنه.
- التقادم الطويل لا يُكسب الدولة ملكية خاصة: المحكمة أوضحت أن نية التملك، كعنصر أساسي للحيازة القانونية، لا تتوفر لدى الجهات العامة، مما يمنعها من اكتساب الملكية بوضع اليد مهما طال الزمن.
نتائج الحكم
بعد النظر في أوجه الطعن والدفوع القانونية، قضت محكمة النقض برفض طعن الجهة الإدارية، مؤكدة أحقية الورثة في التعويض عن المساحة المستولى عليها. وشددت المحكمة على عدم جواز الجمع بين التعويض والريع إلا بحدود القانون، واعتبرت أن الإجراءات التي استندت إليها الجهة الإدارية لا تستند إلى أساس قانوني.
دروس مستفادة
- الحفاظ على سيادة القانون: الحكم يعزز مفهوم سيادة القانون في مواجهة أي تجاوزات إدارية، مشددًا على ضرورة احترام الإجراءات القانونية في حالات نزع الملكية.
- الملكية الخاصة كحق دستوري: الملكية الخاصة محمية دستوريًا، وأي اعتداء عليها يتطلب تعويضًا عادلًا يوازن بين المنفعة العامة وحقوق الأفراد.
- دور القضاء في تحقيق التوازن: القضاء هو الحارس الأمين لحقوق الأفراد في مواجهة السلطة العامة، ويعمل على تحقيق العدالة من خلال تطبيق القانون على الجميع.
ختامًا
هذا الحكم يمثل رسالة واضحة أن العدالة لا تقبل بأي انتهاك لحقوق الأفراد، وأن حقوق الملكية تُصان من أي تجاوزات. وهو دليل على أن القانون ليس فقط أداة لتنظيم العلاقات، بل هو أيضًا وسيلة لضمان الإنصاف وحماية الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور.